ثقافة التصفيق الجماعي ليست دائما على حق. هذه الفرضية تؤسس نقدها على مشكلة حمل العقل على التسليم بالآراء دون تمحيص وتدقيق. في مجتمعنا كثير من القضايا التي يحشد الناس لها، ويعتنق الناس فحواها دون تمحيص. المشكلة ليست في عوام الناس، بل في من تعلم وأصاب نصيبا من العلم يسمح له بالتفكير بمنطق التساؤل وليس القبول الدائم.
رغم أن حرية تبني المقولات والآراء مكفولة للجميع، فإن هناك حدا للقبول. فالقبول الدائم ضعف واتباع أعمى يؤكد فقدان الشخصية. من هنا نشأت ظاهرة استجادة ما يقوله رمز من الرموز، والتفاني في الدفاع عن آرائه، مع أن الأصل في الآراء أنها قابلة للنقاش والحوار، وكل رأي يصيب به صاحبه ويخطئ، أو أن للرأي وجها آخر قد يؤدي لتصور آخر.
الثقة في شخص لا تعني تبني كل مقولاته والجزم بصحتها، وخصوصا في الأمور الاجتهادية. يحدث هذا في المجتمعات المحافظة ذات التركيبة الهرمية التي يشكل فيها التراتب الاجتماعي نمطا سلوكيا. فالصغير يصادق على ما يقوله الكبير، والمريد يقبل من يشيخه دون نقاش، والطالب يذعن لرأي معلمه... وهكذا. لم نتعلم أن الرأي دولة بين الناس، قد يصدر من صغير فيحل مشكلة، وقد يقدم طالب رأيا يمكن أن يستجيده معلمه. إذن تكوين الرأي يبقى مسألة نسبية لا علاقة له بشخص مهما علا شأنه. الرأي ينتج عن بصيرة منفتحة، تجتهد في استيعاب آراء الآخرين دون أن تغلق منافذ الآراء المختلفة.
يقول الإمام الشافعي: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، وهذا الرأي نابع من شخص له قيمته وفضله وعلمه، وهو لم يلزم أحدا باتباع آرائه، ولم يطلب مريدين لحمل رأيه بين الناس كما يفعل من شغلوا الناس بعلم ضاق أفقه، وجرى في مجرى غير متجدد. البعض لا يقبل من يناقشه، بل يحتاج من يؤيده فقط. أما من يخالفه فمصيره القمع الفكري، وحشد الأتباع الغافلين للهجوم على مخالفيه.
ما يحدث في تويتر شيء من هذا القبيل. أسماء تستكثر الأتباع، لا تحاور أحدا ولا ترد على أحد، ولا تقبل من أحد رأيا مخالفا. وإن حدث وخالفها أحد فمن يرد هم الأتباع الذين رهنوا فكرهم لما تقوله تلك الأسماء دون سواها. إن سخطت الرموز سخط الأتباع، وإن فرحت الرموز فرح الأتباع، وإن استنكرت الرموز أنكر الأتباع. يعيشون مجدهم على فكر آسن، يرفضون أي اختلاف حول قضايا الشأن العام، ويعلمون أن ذلك لن يكلفهم أي شيء؛ لأن أتباعهم تكفلوا بحماية الفكرة والدفاع عنها.
أتساءل: لماذا لا يقبل النقاش كثير ممن استكثروا الأتباع في تويتر، وإن ردوا ففي الغالب يأتي الرد هجاء يسفهون به الخصوم، أو يستعدون به السلطة على كل من خالفهم في الرأي. أإلى هذا الحد آراؤهم مقدسة أو غير قابلة للناقش؟! اختلفت مع أحدهم في توتير وكنت مستعدا للدخول في نقاش من أجل الفائدة، لكنه لم يرد، بل رد أتباعه بكلام لا علاقة له باللياقة الأدبية والدينية. كان الأمر اختبارا، ولم تخب ظنوني. فنحن نعيش ثقافة تكرس الرأي الواحد والأتباع الكثر. مقابلة بين الرأي الواحد الأوحد والأتباع الكثر غربية لا تستقيم مع أي منطق. الناس جبلوا على الاختلاف، فلماذا يتم إقصاء العقل المؤمن بتعدد الآراء؟.
لقد بات الاجتهاد في القضايا الاجتماعية برأي يخالف السائد مذمة تستوجب الرفض والاستنكار؛ لأن من قالها لا أتباع له. لو قالها صاحب الأتباع لمضت الفكرة إلى حيث لا قرار، وبقيت مشعة تشير لصاحبها. هذا زمن الاستقواء بالعامة، ولم يعد زمن النخب التي تأخذ من بعضها وتتحاور فيما يبقى الاختلاف قائما، لأن للحوار وجها لا يحسن طمسه.
ثقافة الرأي الواحد تسللت لمجتمعنا منذ بداية الثمانيات الميلادية وتكرست مع تطورات أحداث المنطقة، فاستقوت هذه الثقافة حتى شكلت خطرا على التربية، وظهر جيل أشد خطرا من معلميه في المنابر والمدارس والجامعات، جيل ليس لديه استعداد أن يقايض الأفكار المتشددة بسواها من القضايا ذات الصبغة العقلانية. إعادة تسوية العلاقة بين النخب والعامة أصبح عسيرا، فالعامة آمنت بما تشربته منذ الصغر في محاضن المنابر المختلفة حتى أصبح نقاش أي فكرة جديدة أو مختلفة عن السائد منكرا تجب محاربته ومحاسبته واستعداء السلطة تجاهه.
العقل الجمعي في ثقافتنا مضطرب وفاقد للهوية، تشوهت مقاصده، وأسنت جذور التسامح في تربته، وازدادت الأمور شدة بإقحام تصورنا للدين في صغائر الأمور مما هو شأن دنيوي يجوز فيه الاجتهاد والاختلاف.